العلم والدين حسب رؤية عبد الكريم سروش

بيان وجه التناسب بين العلم والدين:
إنّ كيفية حل التعارض بين العلم والدين تعتبر بحد ذاتها مسألة مهمة، ولكن مع غض النظر عن المناهج والأساليب المتداولة في حلّ هذه المسألة، فإنّ المتدينين في العالم المعاصر وفي جميع المجتمعات الدينية ومنها مجتمع

نا قد توصلوا بأجمعهم إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الدين لا يأخذ على عهدته تعليم العلوم الطبيعية، وعلى الأقل أنّ عامة المسلمين متفقون على هذا الرأي، ولكنّ هذا المعنى في الحقيقة لم يكن قبل خمسين سنة بمثل هذا الوضوح،
وقد قرأت كتاباً لأحد العلماء «ابن الخالصي» يقول فيه أنّه بالإمكان استخراج علم الفيزياء من آيات النور في القرآن الكريم! وفي الآونة الأخيرة ذكر أحد الفقهاء البارزين في قم «الشيخ عبدالله جوادي الآملي» أنّه عندما يكون بإمكاننا توسعة علم الأصول بهذا الحجم من خلال روايات معدودة من قبيل «لا تنقض اليقين بالشك» وأمثالها فلماذا لا نتمكن استخراج علم الزراعة من بعض الروايات؟ فعلينا بالتوجه إلى الأحاديث الشريفة لنستخلص منها العلوم الحديثة. وهذا الفقيه نفسه يقول في مكان آخر: إنّه بالإمكان استيحاء علم صناعة السفن من قصة نوح.
هذه المدعيات الغريبة لا تنحصر بالمسلمين وثقافتهم الدينية بل أنّ المجتمعات المسيحية واليهودية تعاني من هذا النمط من التفكير الديني أيضاً. وهناك تجارب علمية مماثلة في المجتمعات الدينية الأخرى، أجل ففي هذا العصر لا نجد من يعتقد بمثل هذه الأفكار السقيمة إلاّ ما ندر. ولا أحد منّا يتوقع على مستوى الجد والحقيقة أن يعلمنا النبي الأكرم علم الفيزياء أو الكيمياء أو علم النجوم أو الطب أو الهندسة أو الجبر وأمثالها. وعندما نجد في بعض الروايات إشارات من هذا القبيل فهي تنطلق في بيانها لهذه الأمور بالعرض تماماً، أي أنّها لا تعني أنّ هذه الأمور ذاتية من جوهر الدين. وفقدان مثل هذه التعاليم والإشارات في النصوص الدينية لا يمثّل نقصاً في الدين أيضاً، فإنّ رسالة النبي في الأساس وكذلك الأنبياء بشكل عام لا تتمحور حول تعليم الناس هذه العلوم، وأمّا الإشارات الواردة في النصوص إلى هذه المسائل فهي على سبيل الهامش وبالعرض وتعليمهم لها لا يكون بمقتضى الدين بالذات بل خارج دائرة الرسالة السماوية للنبي أو الإمام. إنّ الوصول إلى هذه النتيجة وقبولها ينتج ثمرات وبركات كثيرة، ومن ذلك حلّ مشكلة التعارض بين العلم والدين، بمعنى أننا نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّه لا ينبغي لنا النزاع والنقاش بجديّة حول الأمور العلمية الواردة في النصوص الدينية والإلتزام بها من موقع الاصرار وأنّها تمثّل الحق والواقع، فمع قبولنا وتصديقنا بهذه النتيجة يكون بإمكاننا التحرك خطوة إلى الأمام على مستوى تصديق هذه القضية، وهي أنّه بناء على هذه الفرضية فإنّ الدين له خطاب ورسالة موجهة للناس في مقام بيان الأحكام ومسائل العلم، وهذا الخطاب يمثّل الحد الأدنى وهو متفرع على أصل الرسالة، لا الحد الأعلى ولا يمثّل الأصل لها. فلا أحد بإمكانه أن يدعي أنّ النصوص الدينية الواردة في قضايا الطب تمثّل الحدّ الأكثر في دائرة هذا العلم، أي أنّه علّم الناس الحدّ الأكثر من المسائل الطبية اللازمة أو الممكنة للناس.

بيد أنّ العلوم لا تنحصر فقط بالعلوم الطبيعية والتجربية، فهناك علوم إنسانية كالاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع. فماذا يمكن قوله في مجال هذه العلوم؟ إنّ البحث مازال مستمراً في دائرة هذه العلوم ونحن لا نزال نراوح في هذه المرحلة ولم نتجاوزها. فلحد الآن لم يحصل إجماع بين العلماء في دائرة العلوم الإنسانية على مستوى قضايا هذه العلوم كما هو الحاصل بالنسبة للعلوم الطبيعية والتجربية التي تمثّل حصيلة تجارب تاريخية طويلة، ولكن من الواضح لكل من خَبُر هذه العلوم وكانت له ممارسة فكرية في طبيعة وتاريخ هذه العلوم أنّ الحكم في هذا المورد مثل سائر الموارد السابقة، فحكم العلوم الإنسانية من اقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع حاله حال العلوم الطبيعية والفيزيائية.

فليس الغرض من الأديان، ومنها الإسلام، تعليم الناس العلوم الطبيعية والتجربية ولا تعليمهم العلوم الإنسانية، أي أننا في مورد العلوم الإنسانية ينبغي أن ننظر إلى الدين وأحكامه الواردة في هذه الدائرة بنظر الحدّ الأدنى، فعلى فرض أنّ الدين بيّن للناس بعض الأمور في هذه الدائرة فهي تمثّل الحد الأدنى والأقل، وحتى بالنسبة لمن يعتقد بأنّه يمكن استخراج بعض أحكام هذه العلوم من النصوص الدينية فإنّه لا يدعي اطلاقاً أنّ الدين مثلاً يهدف إلى تعليم الناس علم الاقتصاد أو علم الاجتماع في الحد الأكثر. فمثل هذا الادعاء واضح البطلان ومجانب للصواب، فلا يمكن اطلاقاً استخراج علم الاجتماع بجميع تفاصيله وامتدادته من الدين، وهكذا علم الاقتصاد وعلم النفس وغيرها. والتجربة التي مرّ بها مجتمعنا في الأعوام الأخيرة أثبتت بوضوح عدم جدوى الجهود المبذولة لإثبات صحة هذه المدعيات.

فإنّ مباني ومرتكزات ومسائل هذه العلوم مستقلة عن الدين فيما تمثّله من بحوث ومناهج ودراسات، وهذا المعنى يمثّل أفضل علامة على التمايز الماهوي وبينها وبين الدين. فلو أنّ الأديان جاءت لتعليم الناس هذه العلوم فلماذا لا نجد في الأوساط الدينية عالماً بالاقتصاد أو بالاجتماع أو بعلم النفس بالمعنى السائد في هذا العصر؟ ولماذا لم يستخرج مؤسسو هذه العلوم مبانيهم ونظرياتهم العلمية من عمق التعليمات والنصوص الدينية؟ مضافاً إلى وجود تعارض بين بعض التعاليم والقضايا الدينية مع قضايا هذه العلوم حيث يعدّ شاهداً آخر على تباينهما لا أنّ أحدهما مشتق من الآخر.
المصدر
....
عبد الكريم سروش ,بسط التجربة النبوية,ص:107.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اصل الارهاب في علم الاحياء

رمضان

كَمَـان وشمعـدان