اللغة المعصومة.. علي السام
بعد اسابيع من دراسة اللغة السويدية بدأت استغرب من بساطة قواعدها الى درجة يمكن اختصارها في صفحة واحدة! أين المثنى, و المبتدأ و الخبر, المنصوب و المجرور و المشار اليه؟ أي ادوات النصب و حروف الجر و الادوات الجازمة و الشرطية؟ اين قواعد الارقام و كيفية كتابتها, كان و ان و اخواتهما و اين حروف العلة التي نسمعها و لا نكتبها و تلك الحيرة الازلية بين الضاد و الظاء؟ بدأت اتذكر قواعد اللغة الانكليزية التي كمثيلتها من اللغات الجرمانية تتصف بقواعد اكثر سهولة من تلك التي قضيت ايام دراستي في بغداد اتعلمها ثم انساها مما قادني الى التفكير بسبب تعقيد قواعد اللغة العربية التي كنت اصفها بأجمل لغات العالم.
مع الزمن كبر هذا السؤال في ذهني -وجودي في اوروبا و التعرف على العدد الهائل من الاشخاص الذين يتكلمون اكثر من لغة واحدة جعلني افتقد لقاء اشخاص تعلموا العربية عن كبر كما تعلمت انا السويدية و النرويجية و رغم لقاءي بعدة مستشرقين كنت اجد دائماً بأننا نتبادل بضع جمل بالعربية ثم نضطر الى اللجوء الى لغة يجيدها كلانا بشكل افضل مثل الانكليزية. بل انني احُتجِزتُ يوما في مطار هيثرو في العاصمة البريطانية لندن بسبب عدم قدرتي فهم سؤال ضابط الجوازات الذي سألني بلغة لم اتعرف عليها عن مكان قدومي و بقي يردد السؤال و انا اجيب بالإنكليزية بأنني لا افهم ما يقول حتى سألني بالإنكليزية ان كنت اتكلم العربية التي تفاخر بأنه يجيدها حينها فقط فهمت بأنه كان يسأل بالعربية.
من الخطأ علمياً ان نستعمل مشاهدات محدودة لاستنباط قوانين لكنني اقول بأنني كشخص التقيت بعدد كبير ممن ارادوا تعلم العربية و فشلوا في تعلمها بإجادة تقارن مع من يتعلمون الانكليزية او السويدية او الفارسية و ما الى ذلك من لغات العالم- فلماذا هذا الفرق؟ هنا احب ان اضيف جانباً آخر الى جانب صعوبة قواعد العربية التي تعتبر- حسب تقارير الامم المتحدة- اصعب لغة من ناحية القواعد في العالم و هو جانب الفارق الشاسع احياناً بين اللغة العربية المكتوبة و لهجات العرب المحكية فالعربية الكلاسيكية هي في الحقيقة لغة ثانية نتعلمها في المدارس و نترجم افكار طفولتنا اليها- لها كلمات تختلف عن لغات البلدان العربية من العراق الى مصر و بلاد الشام و لها قواعد مختلفة. و هنا نجد اختلافا آخر مع السويدية التي تتطابق فيها اللغة المحكية بشكل شبه كامل مع اللغة المكتوبة و نفس الشيء في اللغة الانكليزية.
من العادات التي وجدتها عند العرب و لم اجدها في الغرب هي اولئك الاشخاص الذين يصححون قواعد المتكلمين ففي كل خطاب سمعته في بغداد كانت هناك اصوات تتذمر من رفع المنصوب و جر المرفوع في حين ان المتكلمين من المتعلمين في السويد او بريطانيا قلما يرتكبون خطأ لغوياً. لماذا يعاني العربي اذا من لغة قلما نجد من يجيد قواعدها و كجانب اخر, لماذا نجد بان اجادة اللغة و قواعدها عادة ما يقترن بقرب المتكلم من الدين و القران؟
اعترف بأنني لست عالماً لغوياً بل اختص بالرياضيات, البصر, علم الالوان و الاحصاء فما اقوله هنا مبني على فهمي للغة عن طريق مبادئ الرياضيات و الاحصاء. استنباط القواعد شيء يقوم به الانسان بشكل عفوي, فكل من يرافق الاطفال يعرف بأنهم يصممون قواعد لغوية عن طريق اتباع الامثال, كمثال, رمى هو فعل ماضي من الفعل يرمي فعند تعلم الطفل لهذا المثال يقوم باشتقاق قانون لتصريف فعل مثل اكل, يأكل و سبح يسبح و يضحك الاهل حين يستعمل الطفل نفس القواعد في تصريف افعال شاذة. قواعد اللغة اذا هي عبارة عن مجموعة الشروط التي تفسر لنا العلاقات المستعملة في اللغة المحكية و المكتوبة و كلما قل عدد القواعد كلما سهل تعلم اللغة و تعليمها و كلما تحسنت قدرة مستعمليها على اتقانها. على هذا الاساس تشذب لغات العالم مع الزمن من الشواذ التي لا تتطابق مع القوانين و نجد بأن قواعد اللغات الحية تتجه نحو التبسيط. فلماذا يتكلم العراقي و السوري و المصري لهجة اهلة دون اخطاء نحوية و دون ان يتعلم قواعدها و يخطئ في استعمال العربية رغم الدراسة الطويلة و لماذا لم تشذب لغة عريقة مثل اللغة العربية؟
السبب في تصوري هو تقديس لغة القران التي يعتبرها اللغوين لغة خالية من الاخطاء النحوية كونها كلام الله الذي يتكلم العربية بلهجة قريش في ايام الدعوة الاسلامية. استعمل النحويون النص القرآني لاستنباط قواعد اللغة العربية و نتيجة لاعتباره نصاً خالياً من الاخطاء النحوية توجب عليهم وضع قواعد تفسر كل تركيباته و رغم تطور لغات المنطقة و تبسيطها و رغم عدم فهم الكثيرون منا لمعاني و كلمات المعلقات و عدم قدرتنا على اعراب الكثير من الآيات القرائية ما زلنا نعيش في عالم يمنعنا من تبسيط القواعد و تقريب اللغة المحكية من اللغة المكتوبة مما يحكم على الكثيرين ممن لا يجيدون قواعد اللغة بالصمت و الابتعاد عن نشر افكارهم خوفا و تحرجاً من ضعف لغتهم. و رغم تواجد بعض المفكرين العرب الرواد مثل الرائع زياد رحباني الذين قرروا ان يتجاوزوا هذه المشكلة تماما بالكتابة بلهجتهم مازالت تجاربهم تجابه بالرفض و الامتعاض و عدم تبني اللغوين لها.
ما دمنا نعيش في عالم عربي يرفض رفضاً قاطعاً ان ينشر كتاباً اسمه: القران بلغة حديثة فأننا سنبقى مقيدون الى مقدس يجرنا الى الوراء و يمنعنا من تطوير تلك الاداة التي لا يستغني عنها من اراد ان يتواصل مع افكاره و افكار الاخرين: اللغة! و ما دام الكثيرون منا يدعون فهمهم لآيات القران و ما دمنا نصف ما لا نفقهه بالروعة و البلاغة فسنبقى شعوب امية تحلم بذلك الزمان القديم الذي لم تكن فيه الكتابة شرطاً من شروط الحرية.
ملخصاً اريد ان اقول بان من شأن تحرير اللغة من قدسية الكتب الدينية ان يحررها من كونها الكلام الذي نطقه رب العالمين الى اداة يستعملها الانسان من اجل التطور و مثلما تخضع اي اداة الى حاجات مستعملها و زمانه و مثلما توقفنا عن استعمال الخيل حين صنعنا الدراجة فيتوجب علينا ان نمتلك حرية تحرير اللغة من النص المقدس من اجل ان يتكلم الانسان دون قيد المحرر اللغوي الذي ينتقد الافكار و ما يكتبه الناس و يتهمهم بالجهالة الفكرية لانهم رفعوا المنصوب و نصبوا المجرور.
علي السام- انسان كوني

تعليقات
إرسال تعليق
التعليق ضروري لاهمية مشاركة الاخرين وجهة نظر وافكار وان كانت لا تتفق معنا , الصمت ليس علامة الموافقة دائما فلا تحرمنا من فرصة الاستفادة منك للاضافة تنقيح افكارنا من الخطأ الذي قد نقع به ويقع به الاخرين حينما يطلعون على افكارنا , فلا تكن بخيلاً بتعليق لن ياخذ منك سوى دقيقة سواء اتفقت ام اختلفت معنا .